29/05/2021 - 01:13

لنضع ذكرياتنا في الحقيبة... جاءت الحرب | شهادة

لنضع ذكرياتنا في الحقيبة... جاءت الحرب | شهادة

عدسة الفنّان بلال خالد

 

إنّها الحرب الرابعة على غزّة، تختلف التفاصيل في كلّ مرّة، ويختلف الزمن، لكن يتبقّى للمشاعر والتفاصيل الخاصّة تاريخ داخل الذاكرة والجسد.

منذ اللحظة الأولى للحرب، يدخل الإنسان في نفق آخر، أشياء كثيرة تداهم الحواسّ، تُسْهِمُ في حرف الاتّجاه، وتدفع الخلايا المرهقة إلى طريق جديد. في هذا الإطار تتبادر إلى الذهن شواهد، لا يمكن تجاهلها، ولا يمكن الجسد تخطّيها، كما لو أنّه لم يحدث شيء، فبعد الحرب، لا يعود المرء كما كان في السابق.

ولا يمكن أن يتخيّل الإنسان المقيم خارج محيط الحرب، كم القلق والخوف المرافق لتلك الحالة الناجمة عن التقاطع معها! هذا التقاطع غير الاختياريّ، ينطوي على تجربة مغايرة، غير مستساغة لدى الذات البشريّة. حتّى الحيوانات في الحرب تشعر بخوف مضاعف... لا أنسى تلك القفزة لقطّتي «كوكي» من حضني، مع أوّل صوت انفجار حول سكني، لقد كان ردّ الفعل منها أكبر من مفهوم الهرب، ويمكن تخيّله بأنّه مسارعةٌ إلى مكان تظنّه الأمان. جرت في مساحة البيت كلّها لتختبئ تحت طاولة خشبيّة.

هذا الحمل الهائل الوزن، الّذي تلقيه الحرب فوق كاهل الإنسان، لا يمكن اختزاله في ذكريات منفردة، فذكريات الحرب تأتي كتلة واحدة، حين نستحضر جزءًا منها، تسقط كلّها في المكان. لكنّي في هذه التجربة الكارثيّة ترسّخت معي أحاسيس واضحة مع الحقيبة، والصوت، والجدار، والنظرات، والاهتزاز.

***

حين تبدأ اللحظة الأولى في الحرب، يخاف الإنسان الغزّيّ على ذكرياته، ولتَدارُكِ هذه الحالة، يأتي بالصور القديمة، وشهادات الميلاد، وعقود العقارات، والمجوهرات الثمينة، والهدايا ذات القيمة، والمال الموجود في المنزل، ويضعها في حقيبة صغيرة، صانعًا مساحة أمان هشّة، تُسْهِمُ في التخفيف من حدّة القلق الّتي يواجهها.

هذا الحمل الهائل الوزن، الّذي تلقيه الحرب فوق كاهل الإنسان، لا يمكن اختزاله في ذكريات منفردة، فذكريات الحرب تأتي كتلة واحدة، حين نستحضر جزءًا منها، تسقط كلّها في المكان.

فكرة الحقيبة هذه، لا تعني شيئًا سوى الرحيل المتوقّع عن المكان، كرمز إلى السفر، أو الهرب، أو المغادرة. لكن، حين تكون عمليّة ملء الحقيبة بحركات سريعة يرافقها التوتّر والقلق، يتعاظم معناها، فتصبح هذه الحقيبة هي الموروث، والشيء الّذي يحاول الإنسان إبقاءه حال رحل عن الحياة.

فكرة الحقيبة ذاتها تعيد إلى المخيّلة لحظة النكبة الفلسطينيّة، والتغريب عن الأرض، فلم يحمل أجدادنا في الأرض المحتلّة عام 1948، سوى المقتنيات المهمّة، كما فعلنا في غزّة وقت الحرب الأخيرة، فكانت الصرّة الّتي غادروا منازلهم بها، تحمل نفس محتوى حقيبة غزّة. لقد خرجوا بنيّة الرجعة القريبة، حين تهدأ الحرب، ومنذ ذلك الوقت بقيت محتويات الصرّة موروث العائلة، وصار المفتاح رمزًا إلى حقّ العودة الأصيل للبلاد.

***

أمّا تجربة الصوت، فلا يتوقّف الإنسان عن تلقّي الأصوات، منذ لحظات الحياة الأولى، ويمكن الحديث عن الألفة بين الإنسان والصوت، الّتي تتحقّق مع التكرار والممارسة اليوميّة لأدوات الأذن الحيويّة، ولعلّ أجمل الأصوات الّتي يألفها المرء، صوت الموسيقى، في ما يأتي على النقيض تمامًا، أصوات الانفجارات، الّتي تتصاعد طيلة زمن الحرب. الصوت في الحرب الأخيرة كان ثقيلًا، مُغْرِقًا في الوضوح، والكثافة، ولا يكفّ عن اختراق الجسد ببحّته الغليظة؛ فلا يمكن نسيان الأثر الّذي تركه الصوت في سماء غزّة، وبين هياكل مبانيها، على مدار العمر.

مَنِ استطاع من أهل غزّة النظر من شبّاك غرفته، نحو السماء، وسط الهدوء المرعب في الليل، كان يلحظ الضوء الغريب، البشع، الّذي يولّده اصطدام المتفجّرات الصاروخيّة بالمبنى، وصار الطفل في غزّة يمتلك خبرة حول ذلك، فهنالك صوت رهيب متوقّع الحدوث، بعد هذا الارتطام. ولكم أن تتخيّلوا أنّ هذا التوقّع، لا يفيد شيئًا في تخفيف الألم على الجسد، فهَيُوليّة الصوت أعلى من أن يتحمّلها جسد ضعيف، تتأثّر أعصابه، وشعيراته العصبويّة، بأدقّ التفاصيل.

إنّ الحركة التفاعليّة مع هذا الصوت يترجمها الجسد حركات لاإراديّة، يمكن اعتمادها كرسوم مبدئيّة لمنحوتات ترمز إلى الحرب. ومن المؤكّد اختلاف ردّات الفعل من شخص إلى آخر، لكنّني لا أنسى حتّى الآن، كيف كان الحبل الشوكيّ في عنقي يزمّ كتلته من ذاته، دون تحكّم منّي، وكأنّه يريد الانشقاق عن جسدي، والفرار وحده من هذه الورطة.

في أوقات الليل، كان القصف يشتدّ، إلى درجة لا يمكن احتمالها، واحترازيًّا، وكنوع من الضحك على الذات، كنت أُطفئ جميع الأنوار المطلّة على الشارع، حتّى لا ترى عين الطائرة هيكل منزلنا...

اللحظة الّتي تلي سقوط الصوت، وارتعاش الجسد، كانت بمنزلة تعريف للألم والخوف، فلا تتوقّف نبضات القلب إلّا بعد وقت طويل، ويزداد الأدرينالين في الخلايا، وكأنّ الجسد على صفيح ساخن. ذات مرّة، قصف الاحتلال نقطة قريبة من بيتي في منتصف الليل، كنت قد غفوت لنصف ساعة من شدّة التعب والإرهاق، لكنّني استيقظت على صوت انفجار كان كفيلًا بأن يفجّر قلبي لحظتها، لقد صحوت على فزعة ملأت قلبي بضغط الهواء كبالون، لو زاد الضغط قليلًا لتفتّتت هذه العضلة الصغيرة. كان الشعور بالألم لا يُحْتَمَل، وكأنّ مشرطًا يتجاوز مهمّته في تلك اللحظة.

في ما عدا انهيار المبنى بالقصف الهائل بأطنان المتفجّرات، كانت الجدران في الحرب لحظة لجوء أيضًا. لكن ليس أيّ جدار يمكن اللجوء إليه، وما يحدّد هذا، الجهة البعيدة بعض الشيء عن المكان المُنْذَر بالقصف، هي لا تلغي الصوت، ولا الموت، لكنّه احتمال هشّ للبقاء في أحلك الظروف، إنّها محاولة منهَكة للبقاء على هذه الأرض.

في الحرب لا جدران صالحة للحماية، إلّا تلك الّتي تخلو من الشبابيك؛ فكنت ألجأ وعائلتي، وكذلك أهل غزّة، إلى الجلوس والنوم طيلة أحد عشر يومًا من القصف المتواصل، بين جدارين يخلوان من الشبابيك، في البيت، يحصران بينهما ممرًّا مساحته متر ونصف المتر؛ بهدف الحماية من شظايا الصواريخ الإسرائيليّة المتطايرة عشوائيًّا، وشظايا تكسر زجاج الشبابيك. هذه المساحة المستطيلة، كانت فكرة مغادرتها مرعبة، حتّى صرنا نقلّل من عدد مرّات الذهاب لقضاء الحاجة، الّتي تتزايد تلقائيًّا، وقت التوتّر.

في أوقات الليل، كان القصف يشتدّ، إلى درجة لا يمكن احتمالها، واحترازيًّا، وكنوع من الضحك على الذات، كنت أُطفئ جميع الأنوار المطلّة على الشارع، حتّى لا ترى عين الطائرة هيكل منزلنا (وأنا أكتب هذه العبارة، أبتسم سخرية ممّا فعلت).

في لحظة واحدة، انهال على منطقتنا غرب مدينة غزّة، أكثر من ثلاثين صاروخًا إسرائيليًّا خلال أقلّ من نصف دقيقة، في هذه اللحظات، كنّا وعائلتي جميعًا، ننظر إلى بعضنا بعضًا، نظرة لا أعرف ماهيّتها، لربّما دهشة حزينة، أو خوف مفرط لا يمكن مواراته، كما كنّا نفعل كثيرًا، أو هي نظرة وداع صريحة، أو لربّما استجداء للأمان من بعضنا، فوقتذاك، لم يَعُد شيء يمكن منحه للآخر سوى النظرات الطويلة.

في الحرب لا جدران صالحة للحماية، إلّا تلك الّتي تخلو من الشبابيك؛ فكنت ألجأ وعائلتي، وكذلك أهل غزّة، إلى الجلوس والنوم طيلة أحد عشر يومًا من القصف المتواصل، بين جدارين يخلوان من الشبابيك، في البيت، يحصران بينهما ممرًّا مساحته متر ونصف المتر...

ولا يتوقّف الأمر عند الصوت المرعب، والنظرة اليائسة، والاحتماء بالجدارَيْن؛ فكانت الضربات الصاروخيّة من المحتلّ، للمناطق البعيدة والمجاورة، تتسبّب في اهتزاز المنزل لمدّة تزيد على سبع ثوانٍ، كنّا وقتها نُوْضَع رهائن للعبة توازن يلعبها المنزل، قد يفشل فيها، ويسقط أخيرًا؛ فالمركب باهتزازه في البحر، يلعب نفس اللعبة، لكن وقت العاصفة، هذا المركب مهدّد بالغرق.

لعبة الحرب عند الطغاة لا تتوقّف، فهم لا يتوقّفون عن صنع لحظات تشحّ فيها الحياة عن الآخرين، ويكرّسون خلالها كلّ الأدوات لجعل الخوف هو الموت للإنسان والحيوان، أكثر وجودًا وهيمنة. والتاريخ لا يتوقّف عن رصدهم، وتعريتهم، هذا يعيد للذاكرة الواقع البعيد، فقد شحّت الألعاب في أسواق أوروبّا، ومُنِعَت عن الأطفال في الحرب العالميّة الثانية؛ إذ اسْتُخْدِمَت جميع الموادّ الخامّ لصناعة الأسلحة وتمويل الحرب.

 

 

حسام معروف

 

 

شاعر ومحرّر. حاصل على جائزة متحف محمود درويش عن قصيدة النثر (2015)، وجائزة مؤسّسة بدور التركي للتنمية الثقافيّة (2015) والتي صدرت في إطارها مجموعته الشعريّة، 'للموت رائحة الزجاج".

 

 

 

نروي الهبّة: من الشيخ جرّاح إلى غزّة | ملفّ

نروي الهبّة: من الشيخ جرّاح إلى غزّة | ملفّ

12/08/2021
«إِنْ أَنْ قَدْ آنَ أَوانُه»... فنّ يفضح

«إِنْ أَنْ قَدْ آنَ أَوانُه»... فنّ يفضح

04/06/2021
محمّد الكرد... شاعر من القدس يكتب عن رِفْقَة | حوار

محمّد الكرد... شاعر من القدس يكتب عن رِفْقَة | حوار

28/06/2021
جدليّة شَبابْنا مْلاح وْبَناتْ بِتْأَرْجِلْ

جدليّة شَبابْنا مْلاح وْبَناتْ بِتْأَرْجِلْ

04/08/2021
في مديح الْجَدْعَنَة

في مديح الْجَدْعَنَة

03/07/2021
«جمل المحامل»... يعود شابًّا وملثّمًا في غزّة

«جمل المحامل»... يعود شابًّا وملثّمًا في غزّة

27/05/2021
خوارزميّات الموت والاضطهاد: الحزن، التفاعل التشاركيّ، البعثرة الخورازميّة في السوشال ميديا

خوارزميّات الموت والاضطهاد: الحزن، التفاعل التشاركيّ، البعثرة الخورازميّة في السوشال ميديا

16/05/2021
في الجَناح يا عمّي: معجم المواجهة والاشتباك

في الجَناح يا عمّي: معجم المواجهة والاشتباك

14/06/2021
هبّة من أجل القدس: ثقافة الرفض وأفعال المقاومة

هبّة من أجل القدس: ثقافة الرفض وأفعال المقاومة

30/05/2021
ابن العنف: سارتر والاستعمار وفلسطين

ابن العنف: سارتر والاستعمار وفلسطين

07/06/2021
مستشفيات إسرائيل... احتفاء واهم بالتعايش

مستشفيات إسرائيل... احتفاء واهم بالتعايش

04/07/2021
مغترب أمام حدث وطنيّ اسمه «الهبّة»

مغترب أمام حدث وطنيّ اسمه «الهبّة»

24/06/2021
 قواعد الاشتباك الأربعون

 قواعد الاشتباك الأربعون

25/05/2021
"هبّة القدس"... ثوريّة البذاءة

"هبّة القدس"... ثوريّة البذاءة

26/07/2021
نروي الحكاية، نستعيد الجبل

نروي الحكاية، نستعيد الجبل

27/06/2021
مستحيلات المكان وأعجوبة السمكة

مستحيلات المكان وأعجوبة السمكة

02/06/2021
هستيريا جماعيّة: انفجار نظريّة العرق في وجه أصحابها

هستيريا جماعيّة: انفجار نظريّة العرق في وجه أصحابها

14/05/2021
الهبّة... عودة الفنّان إلى شارعه

الهبّة... عودة الفنّان إلى شارعه

30/06/2021
معركة «سيف القدس»: صحف أوروبّا وأمريكا تنحاز لسرديّة إسرائيل

معركة «سيف القدس»: صحف أوروبّا وأمريكا تنحاز لسرديّة إسرائيل

19/05/2021
للحارات شباب يحميها | شهادة

للحارات شباب يحميها | شهادة

27/05/2021
"أسبوع الاقتصاد الوطنيّ"... تنظيم الذات الفلسطينيّة

"أسبوع الاقتصاد الوطنيّ"... تنظيم الذات الفلسطينيّة

25/06/2021
حيفا إلنا: ما بين الحارة، والمحطّة، والمحكمة | شهادة

حيفا إلنا: ما بين الحارة، والمحطّة، والمحكمة | شهادة

25/05/2021
مظاهرة هارتفورد: الهتافات، والشرطة، واللغات

مظاهرة هارتفورد: الهتافات، والشرطة، واللغات

21/05/2021
التضامن مع سلوان... وجهة نظر معلّمة

التضامن مع سلوان... وجهة نظر معلّمة

26/07/2021
الصراع في ضوء الهبّة: الرواية والزمن والتدويل

الصراع في ضوء الهبّة: الرواية والزمن والتدويل

01/06/2021
الجسد حين يقاوم: تأمّلات في سياسات الموت والحياة

الجسد حين يقاوم: تأمّلات في سياسات الموت والحياة

18/05/2021
الاحتلال متقدّم في قياس حالة الطقس!

الاحتلال متقدّم في قياس حالة الطقس!

19/06/2021
الصور الّتي لن تفارقنا

الصور الّتي لن تفارقنا

21/05/2021
لأنّ حياة الفلسطينيّين أيضًا مهمّة

لأنّ حياة الفلسطينيّين أيضًا مهمّة

05/07/2021
واجبنا أن نغضب | ترجمة

واجبنا أن نغضب | ترجمة

22/05/2021
جغرافيا من مسنّنات

جغرافيا من مسنّنات

13/08/2021
عنوان المعركة: وعي جديد يفكّك وعيًا مريضًا

عنوان المعركة: وعي جديد يفكّك وعيًا مريضًا

18/05/2021
مراكز غزّة الثقافيّة ومكتباتها... هدفٌ دائم لإسرائيل

مراكز غزّة الثقافيّة ومكتباتها... هدفٌ دائم لإسرائيل

21/06/2021
«أجمل ما فينا»... قيم الهبّة ومعانيها

«أجمل ما فينا»... قيم الهبّة ومعانيها

21/06/2021

التعليقات